لقد عمل أليكس دي فال كعامل إنساني وكتب عن المجاعة والقضايا ذات الصلة لمدة 40 عاماً. ويقول في هذا المقال أنه عندما تسيطر المجاعة الجماعية على مجتمع ما، يحدث أمر نادر ورهيب. فالمجاعة ليست مجرد ظاهرة بيولوجية لضمور الجسد، بل هي أيضاً صرخة موت المجتمع. والمجاعة هي مشهد الناس يبحثون عن الطعام في كومة قمامة، وامرأة تطبخ سراً، تُخفي الطعام عن أبناء عمومتها الجائعين. وهي عائلة تبيع مجوهرات جدتها مقابل وجبة واحدة، وجوه أفرادها شاحبة بلا مشاعر، وعيونهم زجاجية.
نعم، هذا هو الإذلال والعار، وهذا هو نزع الصفة الإنسانية الذي يحدث عندما يكافح البشر للحصول على الطعام كالحيوانات. وهذه حقيقة لا يمكن لأي إحصاءات أن تسجلها، حيث تنهار أساليب قياس حالات الطوارئ الغذائية وتصنيفها. وحقيقة أقول إن المجاعة هي الأسوأ عندما ينهار المجتمع بهذه الطريقة.
ولكن كما يستطيع الطبيب المتمرس تشخيص الحمى دون الحاجة إلى إرسال عينات دم إلى المختبر، فإن العاملين الإنسانيين المخضرمون، الذين شهدوا عمق المعاناة الإنسانية في بيافرا عام 1969 أو في إثيوبيا عام 1984، يدركون هذه الأعراض فور رؤيتها. ويرونها اليوم في غزة.
وإذا حاولت أن تنتقل إلى بيانات مؤسسة غزة الإنسانية – المنظمة المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل والتي بدأت عملها في مايو – ستجد نفسك في عالم مختلف. فالمؤسسة تقدّم نفسها كمؤسسة مهنية ورحيمة مصممة للقرن الحادي والعشرين. وسترى صوراً من النظام والكفاءة، وإعلاناً فخوراً بأنها سلمت أكثر من مليوني وجبة أمس من “مواقع التوزيع الآمنة” الأربعة التابعة لها.
وإلى جانب صور هؤلاء الأطفال الجائعين، والنساء اللواتي يتدمرن من الجوع، هناك أيضاً صور لشباب أصحاء. وعلى عكس اللقطات التي صوّرها صحفيون فلسطينيون، والتي تُظهر التدافع اليائس للحصول على المساعدات القليلة التي لا تزال تُقدّم عبر الأمم المتحدة، تنشر مؤسسة الإغاثة الإنسانية العالمية صوراً لعمليات توزيع منظمة، ولموظفيها وهم يمسكون بأيدي أطفال فلسطينيين.
ويصرّ المتحدثون باسم إسرائيل على أن الأمم المتحدة لديها مئات الشاحنات المحملة بالأغذية داخل محيط غزة، والتي ترفض توزيعها، لكن هذه الصورة الوردية لا تصمد حتى أمام أبسط التدقيق. وهناك عدة أسباب تجعلها، في أحسن الأحوال، ارتجالاً من قِبل هواة، وفي أسوأها غطاء لجريمة التجويع الجماعي المستمر.
أولاً، الأرقام غير دقيقة؛ ففي أبريل، أحصت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة مخزونات الغذاء المتبقية في غزة، بعد 18 شهراً من الحصار والحرب، وشهرين من الحصار الإسرائيلي الشامل. وقدّرت أن توافر الغذاء سينخفض إلى نصف ما هو مطلوب فقط لاستمرار الحياة في وقت ما بين مايو ويوليو. وهذا يعني أن جهود الإغاثة يجب أن تغطي كامل احتياجات غزة الغذائية. ومليونا وجبة يومياً أقل من نصف ما هو مطلوب. وربما تكون حصص صندوق الغذاء العالمي قد أبطأت وتيرة المجاعة، ولكن ليس كثيراً.
ثانياً، لا يمكن تخفيف المجاعة بالأرقام وحدها. ونظام صندوق الغذاء العالمي أشبه بالوقوف على حافة بركة كبيرة وإطعام الأسماك برمي فتات الخبز، فمن سيأكل حصصه الغذائية؟
والجوع يصيب الأقلية الضعيفة، والمقياس الذي تستخدمه الأمم المتحدة لتحديد متى يصل انعدام الأمن الغذائي الحاد إلى مستويات المجاعة هو عندما تواجه 20% من الأسر نقصاً حاداً في الغذاء، لذلك يصيب الأضعف لا الأقوى.
على مر العقود، توصلت البرامج الإنسانية إلى أفضل السبل لاستهداف أفقر الناس، مثل النساء اللواتي فقدن أزواجهن، واللواتي يعتنين بالعديد من الأطفال، وربما الآباء المسنين أيضاً. والمرحلة الأخيرة من إيصال المساعدات هي الأهم.
في الواقع يدير صندوق الإغاثة الإنسانية العالمي 4 محطات تموين. 3 منها في أقصى جنوب غزة، في أنقاض رفح، وواحدة في وسط غزة. جميعها في مناطق عسكرية، وتفتح لفترات قصيرة وبإشعار قصير.
وللحصول على هذه الحصص، يجب على الناس التخييم بين الأنقاض والاستعداد للاندفاع نحو البوابات في أي لحظة، ومواجهة المواقع العسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلي. وهم يدركون أن الوسيلة الوحيدة المتاحة لجنود جيش الدفاع الإسرائيلي للسيطرة على الحشود هي إطلاق الذخيرة الحية – حتى عندما لا يكون إطلاق النار بقصد القتل.
عندما يتحدث صندوق الإغاثة العالمي عن “مواقع التوزيع الآمنة”، فإنه يشير إلى كيفية تحكمه في طروده حتى لحظة تسليمها، وليس إلى كيفية توصيلها بأمان إلى المحتاجين. ويُقتل العشرات من طالبي الإغاثة يومياً في محاولة الوصول إلى هذه المواقع.
كيف ستنضم أمّ مرهقة لأطفال جائعين، أو مسنّين أو معاقين، إلى هذا التدافع؟ كيف سيواجهون ليس فقط تلك المواقع العسكرية، بل أيضاً العصابات المتحمسة لسرقة أغلى المواد الغذائية لأنفسهم، أو لبيعها في السوق؟ لا تعرف منظمة GHF من يأكل الحصص. إنها ليست وصفةً لإطعام أفقر الناس، بل هي قانون الغاب.
ثالثًا، يجب تصميم المساعدة بما يتناسب مع احتياجات الناس الفعلية. وعلى رأس القائمة أغذية متخصصة لرعاية الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية والذين لا يستطيعون تناول وجبات منتظمة، مثل “بلامبي نَت”، وهو غذاء علاجي جاهز للاستخدام.
ويحتوي صندوق حصص “جي إتش إف” عادة على الدقيق والمعكرونة والطحينة وزيت الطهي والأرز والحمص أو العدس، لا طعام أطفال. ولا يوجد “بلامبي نَت”. كما أنه لا يوجد ممرضون أو أخصائيو تغذية مدربون في المجتمع لتقديم الرعاية العلاجية للأطفال الذين يعانون من الجوع.
ثالثًا، يجب تصميم المساعدة بما يتناسب مع احتياجات الناس الفعلية. وعلى رأس القائمة أغذية متخصصة لرعاية الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية والذين لا يستطيعون تناول وجبات منتظمة، مثل “بلامبي نَت”، وهو غذاء علاجي جاهز للاستخدام.
إن صندوق حصص “جي إتش إف” يحتوي عادة على الدقيق والمعكرونة والطحينة وزيت الطهي والأرز والحمص أو العدس، لا طعام أطفال. ولا يوجد “بلامبي نَت”، كما لا يوجد ممرضون أو أخصائيو تغذية مدربون في المجتمع لتقديم الرعاية العلاجية للأطفال الذين يعانون من الجوع.
تخيلوا الأم اليائسة التي تقع حرفياً في نهاية السلسلة الغذائية: كيف ستطهو حصصها الغذائية؟ كيف تجد الماء النظيف؟ لقد قلصت إسرائيل توافر المياه إلى جزء ضئيل من الحاجة، وتقصف محطات تحلية المياه المتبقية. فما الذي يمكنها استخدامه لإشعال النار؟ ودون كهرباء أو غاز للطهي، قد تحرق القمامة لتسخين الطعام.
وأخيراً، والأهم من ذلك، أن العملية الإنسانية الحقيقية تدعم المنكوبين، وتحترم كرامة المحتاجين، وتعمل مع المجتمعات المحلية. أما صندوق الإغاثة الإنسانية العالمي، فهو في جوهره يفعل العكس: يُذل ويُقوّض.
إن الانهيار الاجتماعي الذي نشهده، وإهانة البشر، ليس نتيجةً ثانويةً للأذى الذي تلحقه إسرائيل، بل هذا هو العنصر الجوهري للجريمة: تدمير المجتمع الفلسطيني. ولا تظهر حكومة إسرائيل أيَ اهتمامٍ يُذكر بحياة الفلسطينيين أو موتهم. وهي تريد تجنُّب وصمة اتهامها بالتجويع والإبادة الجماعية، ومؤسسة السلام العالمي هي ذريعةُ تبريرها الحالية. دعونا لا ننخدع.
المصدر: The Guardian
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب